عشائر الفايكنج والنورمانديون
مقتطفات - تم النشر بتاريخ 23-08-2022
0

تنقسم الشعوب التي تعيش في الوقت الحاضر في شبه الجزيرة الاسكندنافية والجزر المحيطة بها الى دنماركيين وسويديين ونرويجيين، ولكنهم في سالف الأزمان كانوا يُعرفون باسم واحدة هو “الفايكنج”. كما كانوا يعرفون أيضاً باسم (رجال الشمال)، وفي القرن الثامن بعد الميلاد كان الفايكنج ما يزالون شعباً شرساً غير متحضر. وبسبب المناخ البارد في بلادهم وجدب الأرض، كانت الزراعة وتربية الماشية صعبة عسيرة، وهكذا اتجهوا الى البحر طلباً للرزق وأسباب المعيشة، ولم يطل بهم الوقت حتى أصبحوا ملاحين ذوي براعة فائقة فهجروا أرضهم كلية، وانتشروا في كافة الأنحاء. وأصبح الفايكنج مبعث الرعب على امتداد شواطئ أوروبا الغربية، كانوا يهبطون الى البر في بلد ما، فينهبون المدن ويقتلون الناس، وبعد أن يعودوا محملين بالغنائم، يعيدون الكرة في بلد آخر. وكانوا طوال القامة، شقر الشعور، وعادة كانت لهم شوارب طويلة. وكانوا ذوي بأس بصورة لا تصدق، ويقضون أوقاتاً مديدة في البحر في سفن مكشوفة.

غارات الفايكنج وغزواتهم
وحوالي نهاية القرن التاسع بعد الميلاد، توغل الفايكنج فيما هو الآن روسياً، وطبقاً لما تقوله الأساطير، فإن المملكة الروسية مدينة بتأسيسها الى الأخوة الثلاثة المعروفين باسم “روريك”، إن اثنين من الثلاثة، وهما سنيوس وتروفور، أسسا دولة نوفجورد عام 862، وثالثهم أوليج قام بتوسيع رقعة المملكة، ونقل العاصمة الى كييف.

وفي خلال ذلك كانت جماعات من الفايكنج تنطلق الى وجهات أخرى، فوصلوا بسفنهم المتينة السريعة الى جزيرة آيسلندا، واندفعوا منها الى جرينلاند، وفي كل من انجلترا وفرنسا، أحدثت هجماتهم أضرار فادحة إذ كانوا يدمرون الكنائس والأديرة، ويعملون في الرهبان والقسيس ذبحاً وتقتيلاً، ويعيثون في الأقاليم نهباً وتخريباً. وفي القرن التاسع استُهدف باريس للنهب والسلب أربع مرات على الأقل. وفي كل مرة كان الفايكنج يصلون إليها ليلاً ويقتربون منها بالسفن خلال نهر السين. وفي النهاية اضطر الملوك الفرنسيون الى دفع مبالغ باهظة في مقابل انسحاب الغزاة من العاصمة. وفي عام 885 قام نحو 30000 من (رجال الشمال) بفرض الحصار على باريس مرة أخرى، وفي هذه المرة دفع الملك الفرنسي 700 جنيه ذهباً الى (رجال الشمال) الذين تركوا العاصمة، وإن لم يتركوا فرنسا، فقد استقروا ووطدوا أقدامهم في المنطقة المعروفة باسم نورماندي، وأصبحوا يُعرفون باسم النورمانديين، وعندئذ حدث شيء غير عادي، فإن النورمانديين بعد اتصالهم بالحضارة الفرنسية، نبذوا ديانتهم الخاصة وتحولوا الى المسيحية، واستبدلوا بلغتهم الاسكندفانية لغة الأقاليم الشمالية في فرنسا، واحتذوا أنماط الحياة الفرنسية.

الفايكنج في انجلترا
يعتقد أن الفايكنج وفدوا على انجلترا لأول مرة في عام 787 بعد الميلاد، حينما قاموا بالإغارة على ساحل دورسيت، ثم أغاروا فيما بعد على إقليم نورثمبريا، ويقال أنه كانت هناك (زوابع وبروق هائلة، وشوهدت تنانين من نار تطير في الهواء). ولم يبدأ الفايكنج في الاستقرار في انجلترا إلا بعد حوالي 80 عاماً من ذلك التاريخ، فتمكنوا من قهر إقليمي نورثمبريا ومرسيا، ثم هاجموا إقليم ويسكس، على أنهم قوبلوا في هذا الإقليم بمقاومة عنيفة، إذ استطاع أبناء إقليم غرب سكسونيا محتشدين تحت لواء الملك ألفريد إحراز نصر كبير في معركة ايثانديون (عام 878). وعندئذ اضطر الفايكنج الى الموافقة على حصر إقامتهم في الجزء المعروف في انجلترا باسم دينلو.

وظلت انجلترا فترة من الوقت وقد تخلصت من غارات الفايكنج، ولكن بعد أن أصبح ايثلريد ريدليس ملكاً (عام 979) عادوا فاستأنفوا الغارات، وفي أول الأمر دفع هذا الملك الضعيف إليهم مبالغ كبيرة من المال لكي يرحلوا عن بلاده، ولما لم يجد في ذلك نفعاً، اتخذ خطوة يائسة مستميتة، فقد أمر بتذبيح كافة رجال الفايكنج العاملين في خدمته، ومن ثم أدى ذلك الى انتقام مروع، فإن سوين ملك الدنمارك غزا البلاد وطرد منها ايثلريد المنكود. ثم توفي سوين بعد قليل، ولكن ابنه كانوت أصبح ملكاً على انجلترا كلها، وظلت انجلترا مدى 25 عاماً يحكمها ملوك دنماركيون. ثم جاء ملك انجليزي لفترة قصيرة هو “إدوارد” الملقب “بالمعترف” ولكن بوفاته قام النورمانديون بغزو البلاد تحت قيادة الدوق وليام.

في الثامن والعشرين من شهر سبتمبر عام 1066 هبط وليام الفاتح دوق نورمانديا، على رأس جيش على شاطئ انجلترا الجنوبي، بقصد فتح الجزيرة كلها. وفي اليوم الرابع عشر من شهر أكتوبر دارت معركة هيستنجس بين قوات الدوق الغازية وقوات الملك الإنجليزي هارولد. وبعد قتال استغرق اليوم كله، ظفر وليام الفاتح بنصر ساحق، وفقد هارولد خيرة جنوده حياتهم. وفي عيد الميلاد لعام 1066 عمل وليام الفاتح على تتويج نفسه ملكاً على انجلترا في (وستمنستر آبي).

النورمانديون في إيطاليا
أصبح النورمانديون مبعث الرعب والذهول في أوروبا في القرن الحادي عشر. فمن موطنهم الجديد في إقليم نورماندي الفرنسي، قهروا انجلترا، ثم قهروا جنوبي إيطاليا وجزيرة صقلية. بل إنهم ظهروا على مشارف القسطنطينية، وتعدوها الى القيام برحلات حج الى بيت المقدس.

وفي عام 1016، دعيت عصبة من النورمانديين وهم في طريق عودتهم من رحلة حج الى بيت المقدس، للمساعدة في حرب قامت بين اللومبارديين واليونانيين في جنوبي إيطاليا، وسرعان ما توافد النورمانديون الى هذه البلاد المبشرة بالخير في جموع كبيرة. ولقد جاء الكثيرون منهم لأن نورمانديا كانت من صغر الرقعة بحيث لا تستوعبهم وتكفي معاشهم. وكان ثمة فارس نورماندي إسمه “ثانكريد دي هوتفيل” له أبناء كثيرون، ولم يكن له من الأرض ما يكفي لقوم بأودهم. وبمضي الوقت أخذ أبناؤه ينزحون الى جنوبي إيطاليا، واستطاع أحدهم وهو “روبرت جيسكارد” أن يصبح القائد النورماندي في جنوبي إيطاليا، فأخذ يعمل على طرد اليونانيين منها كلية. وفي عام 1059 نصبه البابا دوقاً على مقاطعتي أبوليا و كالابريا. وقبل وفاته عام 1085 استطاع أن يحارب اليونانيين في بلاد اليونان ذاتها، وخشوا أن يحاول فتح القسطنطينية.

وفي أثناء ذلك، كان شقيقه الأصغر “روجر” يهاجم المسلمين في جزيرة صقلية. وفي نفس الوقت الذي كان فيه وليام الفاتح يقوم بغزو انجلترا وفتحها، كان روجر يغزو جزيرة صقلية ويقهرها، وفي عام 1091 أصبح الحاكم المسيطر على الجزيرة كلها، كما أصبح ولده روجر الثاني، الملقب باسم “روجر العظيم” فما بعد حاكماً على كل الإمبراطورية النورماندية في صقلية وجنوبي إيطاليا. وفي عيد الميلاد من عام 1130 توُج روجر ملكاً على صقلية ودوقيات أبوليا و كالابريا، وذلك في كاتدرائية باليرمو عاصمة جزيرة صقلية. وأصبحت مملكة النورمانديين في كل من انجلترا وصقلية، من أقوى الممالك في أوروبا في القرن الثاني عشر.

إن الفاتحين يريدون في العادة فرض لغتهم وديانتهم وقوانينهم وأسلوب حياتهم على البلاد التي يقهرونها. ولكن النورمانديين سمحوا للمسلميت واليونانيين والإيطاليين بأن يتكلموا لغاتهم القومية، وأن يمارسوا شعائر دياناتهم الخاصة، وأن يحتفظوا بعاداتهم وتقاليدهم. إن حكمهم المتسم بالتعقل جعل هذه الفترة عهد ازدهار كبير في جنوبي إيطاليا وجزيرة صقلية. وأدى امتزاج الشعوب الى قيام أنماط رائعة من الفن والمعمار لا تزال نماذج منها تشاهد في جزيرة صقيلة.

سفن الفايكنج
عندما كان يموت زعيم باسل من زعماء عشائر (رجال الشمال)، كانت سفينته التي كان يقوم فيها بغاراته تدفن معه، وبعد ذلك تغطى الحفرة الضخمة المحفورة على شكل خندق بالأحجار والصلصال. وفي خلال القرن الماضي أمكن الكشف عن بعض سفن لرجال الشمال في شبه جزيرة جتلاند وكذلك في النرويج. ومن بين هذه السفن، وجدت السفينة المعروفة باسم سفينة جوكستاد في حالة جيدة، وهي معروضة في مدينة أوسلو، ومن هذه السفينة أمكن استخلاص صورة لما كانت عليه سفن (رجال الشمال). كانت السفينة بطول 78 قدماً، وعرض 16 قدماً، وارتفاع أربعة أقدام. وكانت مقدمتها عالية ومدببة، لكي تصلح لشق أمواج المحيط، وعلى متون سفن من هذا الطراز، تسنى لرجال الشمال أن يشقوا طريقهم في المحيط الأطلنطي الى جرينلاند، بل حتى الى كندا.


المصدر: موسوعة المعرفة