في منتصف شتاء 1076 – 1077، عبر مجموعة صغيرة من الأشخاص جبال الألب وهبطت في إيطاليا، لزيارة البابا جريجوري السابع (1073 – 1085). وكان جريجوري نفسه مسافراً في شمال إيطاليا في طريقه الى ألمانيا، حيث كان يعتزم القيام بمحاكمة الإمبراطور الألماني هنري الرابع، والإشراف على انتخاب إمبراطور آخر يخلف هنري بعد أن يكون قد تم خلعه. وعندما ترامى الى مسامع البابا جريجوري أن هذه المجموعة من الأشخاص قد عبرت جبال الألب، خشي من نشوب أعمال العنف، فالتجأ الى واحد من أقوى حصون إيطاليا وهو حصن كانوسا. وكان حصن كانوسا هذا مبنياً على جبل في منطقة الأبنين، وكانت هناك ثلاثة جدران مشيدة حول الحصن الرئيسي.
ولم يكن هناك ما يدعو البابا الى الخوف. فالرجال لم يكونوا يعتزمون استخدام العنف، بل على النقيض من ذلك، كان قائدهم قادماً الى البابا يسأله الغفران وليؤدي الكفارة. وسمح له بالدخول الى ما وراء الحائط الأول حيث بقي منتظراً حافي القدمين، لمدة ثلاثة أيام وثلاث ليال وسط ثليج يناير عام 1077. وداخل الحصن كان النقاش دائراً بين البابا ومستشاريه عما إذا كان يسمح لطالب الكفارة بالدخول ويمنح الغفران. وفي النهاية أخذتهم الشفقة به، فسمح له بالدخول ومنح الغفران في مقابل قسمه على أن يمتثل لمحاكمة البابا.
وفي العصور الوسطى، كان الآلاف من طالبي الكفارة يأتون الى البابا لمنحهم الغفران. ولم يكن ليتركهم بصفة عامة ينتظرون طويلاً. ولكن طالب الكفارة في حصن كانوسا كان رجلاً أعظم من أن يستقبل بهدوء أو ببساطة، فقد كان هذا الشخص هو الإمبراطور هنري الرابع بلحمه ودمه.
الخلفية
وقد كانت الأوضاع معكوسة فيما قبل ثلاثين عاماً. ففي عام 1046 جلس هنري الثالث، والد هنري الرابع، ليحاكم البابا، وبمعنى أدق ثلاثة بابوات، إذ كانت هناك فضيحة فيما يتعلق بالبابوية، وكان هناك ثلاثة رجال يطالبون بأحقيتهم في اللقب. وقد كان أحد مرشحي هنري الثالث، وهو البابا ليو التاسع (1049 – 1054) هو الذي بدأ ما يطلق عليه أحياناً الإصلاح البابوي، وأحياناً أخرى الإصلاح الجريجوري، وذلك بعد البابا جريجوري السابع، الذي كان أبرز شخصية في هذا الصدد. وكانت البابوية منذ وقت طويل تطالب بأن تكون دولة روحية مستقلة، بل وفي بعض المجالات فوق السلطات الوقتية (الدنيوية)، مثل سلطة الإمبراطور. والآن ها هي ذي تحاول أن تسير على هدى مطالبها.
الصراع حول التنصيب
لم يرغب هنري الرابع في مساعدة البابوية في مجال الإصلاح كما فعل والده هنري الثالث، وعلاوة على ذلك، فقد كان يريد أن يكون لديه نفوذ عليها لا يقل عما كان لوالده. بيد أن جريجوري السابع كان رجلاً شديد الاستبداد، وكان يصر على الاستقلال، ويتمسك بحريته في تعيين أساقفته. ودار صراع عنيف حول ذلك: فبالنسبة الى هنري، كان الأساقفة ضباطاً عظاماً في الدولة وبارونات قياديين، وبالنسبة لجريجوري، كانوا أولاً وأخيراً كهنة في خدمة الرب. وفي عام 1076، نشب صراع حاد حول تعيين أسقف ميلانو. وكان هذا الرجل قد انتخب من جانب هنري ضد إرادة جريجوري، وتم تقليده منصبه عن طريق منحه خاتم الأسقفية وصولجان الأبرشية من الإمبراطور. وكان جريجوري يرى أن الخاتم والصولجان هما من رموز السلطة الروحية، ومن ثم لا يجدر أن يعطيا من جانب سلطة دنيا. وهدد بأن يحرم هنري كنسياً (يطرده من الكنيسة) ، إن لم يتراجع ويسحب مرشحه، ولكن هنري رفض الانصياع وحاول خلع جريجوري، بيد أن الأمراء الألمان لم يؤيدوا الإمبراطور، بل قاموا بدعوة جريجوري للحضور، وترأس اجتماعاً لتقرير ما إذا كان هنري ما زال أهلاً للإمبراطورية. وكان هنري يعلم أن ذلك قد يكون قاضياً عليه، وبذكاء، عرف كيف ينقذ نفسه بتوجهه صوب حصن كانوسا في يناير 1077. فقد ذهب كطالب للكفارة، ومن ثم لم يكن في استطاعة جريجوري أن يرفض منحه الغفران، فأحس الأمراء الألمان عندئذ بأن البابا قد خدعهم.
واستمر الصراع حتى الى ما بعد عام 1077. وفي إحدى المرات، تمكن هنري من طرد جريجوري من روما نفسها. وفي النهاية مات جريجوري في المنفى. ولكن السنوات الأخيرة في حياة هنري كانت أيضاً مليئة بالمتاعب، فقد ثار ابنه هنري الخامس ضده واستولى على عرشه قبل مماته. وواصل هنري الخامس النزاع مع البابوية. ومنذ ذلك الحين، تحددت معالم النزاع بأن أصبحت تدور حول التنصيب (المنح الرمزي للخاتم والصولجان الى الأسقف). وفي عام 1122، تمت تسوية النزاع عن طريق ” اتفاقية فورمس البابوية”. وقد كانت تلك اتفاقية بين البابا والإمبراطور، وبمقتضاها تنازل الإمبراطور عن “التنصيب” في مقابل نظام أوضح أن الأسقف الى حد ما موظف ملكي، وأعطى الإمبراطور الحق في أن تكون له كلمة في تعيينه. وبذلك انتهى أول نزاع من النزاعات المتعددة التي نشبت بين الإمبراطورية والبابوية.